Data Loading...

AJ 25th Book.

102 Views
1 Downloads
201.68 MB

Twitter Facebook LinkedIn Copy link

DOWNLOAD PDF

REPORT DMCA

RECOMMEND FLIP-BOOKS

AJ 25th Book.

ﻧﻬـﺞٌ ﻓﺮﯾـﺪ AUNIQUE PATH

اﻟﺠﺰﯾﺮة ﺗﺮوي ﻗﺼﺘﻬﺎ ﺗﺠﺎرب وﺗﺤﺪﯾﺎت

420

الجزيرة تروي قصتها تجارب وتحديات إشراف الدكتور مصطفى سواق

عن الكتاب في قالب يجمع بين القصة والسرد، يعرض هذا الكتاب أكثر من مئة مقالة، يكشف بعضها خفايا وتفاصيل لم يرها المشاهدون على الشاشة، بينما توثق مقالات أخرى مسيرة الجزيرة، والتجارب الشخصية التي عايشها من تولوا مسؤوليات قيادية فيها. تنقل مقالات هذا الكتاب القارئ إلى بدايات تشكل مشروع الجزيرة، والتحديات التي واجهت مؤسسيه، وتعرض نماذج من التغطيات الميدانية والقصص الإنسانية التي تصف أحداثاً شهدها صحفيو الجزيرة ومراسلوها في مناطق مختلفة من العالم. يطلع القارئ عبر سطور الكتاب على القيم الأساسية التي منحت الجزيرة قوتها ومكّنتها من الانفراد بالصدارة، وأهمها: الاهتمام بالإنسان أينما كان، والانفتاح على الحضارات دون تمييز، ومواكبة التطور الإعلامي المستمر مهنيا وتقنيا. ويتناول الكتاب تطور الشبكة واتساع رقعة تأثيرها، ويتيح لمجموعة من المفكرين والسياسيين والإعلاميين -من خارج الجزيرة- عرض رؤيتهم لمسيرة الشبكة، وتقييمهم لدورها في ترسيخ قيم الإعلام الملتزم بمعايير المهنة وضوابطها. إنها محاولة جديدة لكشف «سر الجزيرة»، وعرض ما قدمته للإعلام وللإنسان. كتاب تروي فيه الجزيرة قصتها، وترسم بأقلام صحفييها ومسؤوليها صورة الشبكة التي تحتفل بالذكرى الخامسة والعشرين لانطلاقتها.

الدكتور صلاح الدين الزين محمد الدكتور عز الدين عبد المولى المحرر المسؤول سمير الشمايلة تحرير

الدكتور الحاج محمد الناسك

محمد سيدي بابا

ترجمة مصطفى بركات تدقيق لغوي سيدي محمد بدبدة تصميم وإخراج

محمد غيتة

أحمد عبد العزيز

تماضر المناعي

سارة دنون

الصور أرشيف شبكة الجزيرة الإعلامية وكالات

ملاحظة: وضعنا رابطا إليكترونيا «كيو آر كود» في بعض المقالات يحيل إلى محتوى مرئي مرتبط بالمادة المكتوبة الطباعة مطابع قطر الوطنية الآراء الواردة في الكتاب لا تعبر عن رأي شبكة الجزيرة الإعلامية

لجنة الإشراف

يمنع نسخ أي جزء من هذا الإصدار أو تخزينه في أي نظام استرجاع أو نقله بأي شكل أو وسيلة من دون الحصولعلى إذن خطي مسبق من شبكة الجزيرة الإعلامية 2021 © جميع الحقوق محفوظة لشبكة الجزيرة الإعلامية ISBN No. …………………

محمد الكبير الكتبي تغطية ميدانية في دارفور 82 فيل ريس وسارة يو الجزيرة تثير إعصاراً سياسياً في قبرص 96 فولي باه تيبو النهوض من تحت الرماد 108

باربرا سيرا تطويع اللغة لتخطي الحواجز الثقافية 78

الدكتور مصطفى سواق الإعلام.. الحيادوالحقيقة 20 طارق دودتش الجزيرة تزداد شبابا علىمر السنين 30

الدكتور حمد الكواري الجزيرة، بقعة ضوء لأحرار العالم ١٦ جايلز ترندل ماذا فعل الإنسان في الأرض؟ 26 الشيخ أحمد بن جاسم آل ثاني عامانفي قمرة القيادة 38 عدنان الشريف الجزيرة.. نظرة خاصة 52

فاطمة التريكي خمس وعشرون.. إلا قليلا! 74

الشيخ حمد بنثامر آلثاني الجزيرة.. نهج فريد 14

خالد صالح ثلاثة وعشرون عاماً فوق السحاب 86

إبراهيمحمدان استقصائيات الجزيرة 92

أحمد بن سالم اليافعي شغف رحلة 24

ليلىالشيخلي لحظات لا تُنسى 104

ديارمويدجيفري أبطالفي غياهب النسيان 100

وضاح خنفر ربيع لا ينتهي 42

أحمد محفوظ التجربة الوثائقية 32

محمد جاسم العلي انبثاق الجزيرة.. الفكرة 46 جعفر عباس الجزيرة في عرسها الفضي 60

ناصر عبد الحق رحلة أخرى إلى بلد الأُحجيات 120

عبد العظيم محمد الجزيرة وتغطية محاولة الانقلاب تركيا في الفاشلة 116 زينب بنت أربيه عرس ديمقراطي يكتمل لم 128

عاصف حميدي تيسير البريد 56

ريبيكابراونعابد من داخل المعمعة 112

سعد السعيدي الضغوطٌ لا تثنينا 132

زاور شوج حقل التجارب النووية 124

فوزي بشرى “حي بن يقظان الجزيري” في غابة الصور 68

تيسير علوني تدمير تماثيل بوذا أفغانستان في 64

7

6

هبةالله مورغان علىشفير الموت 204

هيثم أويت طفلة مخيم بانتيو 200

نزيه الأحدب فوق السلطة وسر الخلطة 144

حيدر عبد الحق مونديال العرب 140

وليد إبراهيم الموصل والحاجة

هديل اليماني ليلة دامية في تعز 196

سناء 136

آلي ري سحر الخوارزميات 216

أماندا بوريل الجزيرة وحماية كوكب الأرض 212

جمال مليكي الغداء الأخير 152

سلام هنداوي في كل جدار ثغرة 148

كاترين يو ميتشيل مليار ونصفمليار قصةتستحقأنتروى 208

محمود الكن وفيدليسشميد مطاردة “شبيحة” الأسد 156 شيماء جو إي إي كورونا في ووهان 168

نجوان سمري “ما معهم الحق، معهم القوة” 224

ماجا بلازفيسكا إفروسيموسكا ليلة دامية في البرلمان 228

وائلالدحدوح انهار البرج.. انهار البرج! 164

ليلى العريان الجزيرة صوت المستضعفين 160

درو أمبروز جنّات تباع بثمن بخس 220

رانيه حلبي الصحافة التي تقاسمك الحياة وحقيبة السفر 172 مينة حربلو “قرصنة زيتونة” وصحافة النضال 184

محمد النجار يوم قيامةفيحلب 238

أحمد حسام صديقي الذي أذعت نعيه ٢٣٦

ميادة عبده ثورة الكنداكات 180

فادي منصور الجزيرة وترمب 176

ستيفاني ديكر كنوز الحياة البرية في قطر 232

أحمد فضل عندما تتخلق ثورة 246

ناصر شديد فيضيافة تنظيم الدولة! 192

كريستين سالومي في نيويورك: الشارع لمن؟ 188

فرح الزمان شوقي أحلام شباب التحرير 250

حورية الحداد الوجه الحقيقي للقارة العجوز 242

9

8

حسان مسعود الجزيرة وموراليس 326

عمرو حلبي الوداع الأخير 322

عبد القادر دعميش أكثر من صورة 266

لوسيا نيومان المنسيونفي الأرض 262

مريم أوباييش عيون زرقاوي 256

مارينفيرشيتش نينوجورجيتش زلزالٌ هز مشاعرنا قبل أرضنا 318

سامي الحاج آلام في المعتقل المتوحش:غوانتنامو 338

د. صلاح الدين الزين محمد المهنية زاد الجزيرة 334

أحمد مرزوق الفهد وراء كل نجاح قصة

بيسان أبو كويك طريق العدالة الطويل 278

شارون روبول الجزيرة تكشف خفايا الظلم 274

إيهاب العقدي انفجار بيروت الدامي 270

تروى 332

فراس السليطي العمليات التقنية: نبض القنوات 350 نسيبة موسى قصص أثرها لا يزول 362

محمد مختار الخليل توفير المعرفة للجمهور 346

منير الدائمي اطلبوا العلم في الجزيرة 342

أليساندرو رامبيتي صوت المنسيينفي الأرض 290 جون هولمان شطائر “تاكو” بطعم البارود 302

جيلينا غلوساك تستمر الحياة في جحيم موريا 286 الدكتور محمد الحميري صوت يستغيث 298

عيسى طيبي اللاجئ رقم واحد 282

محمد جمجوم قرن من المعاناة 294

محمود حسين وهم السلطة الرابعة 358

رينيه عودة فلسطين: قضية نضال ضد الاحتلال 354

إليزابيثديفيا بورانام الجزيرة وفَنّ رواية المسكوت عنه 306

الدكتور أسامة أبو الرب الطبيب الذي يريد أن يصبح صحفيا! 374

يونس آيت ياسين الجزيرة نافذتي على العالم 370

وانغ ماي بينغ الجزيرة بالصينية! 366

فيونا لاوسون بيكر رحلة “سوبرمان” الجزيرة إلى الأوسكار 314

نيكولاس حق سيمفونية الجزيرة 310

11

10

مصطفى بركات سيف دموقليس 386

عادل كسيكسي حكاية الوثائقية وصورتها 382 فيليب. جيه. كرولي الجزيرة: ضرورة إعلامية 394 جاككينغستون في الجزيرة “اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية” 404 آيدان وايت تضحيات صحفيي الجزيرة دليلٌ جرأتها ونزاهتها 414

محمد سيدي السر المبثوث 378

الدكتور علي القره داغي الجزيرة وقضايا الأمة 396

الدكتور المنصف المرزوقي

هنيئا للجزيرة، وهنيئا للعرب 390

الدكتور نايجل بيكر شراكة الخبرات والمهارات 406

الدكتورة روكسان فارمانفارمايان الجزيرة.. جامعة الفرقاء 400

غونار ديديو التاريخ من زوايا متباينة 410

13

12

الجزيرة.. نهج فريد

هذا الكتاب غيض من فيض عن أعظم تجربة إعلامية عربية، بل واحدة من أنجح التجارب العربية في شتى المجالات. وما يميز القصص الواردة فيه أنها ليست فقط روايات شخصية تخص من يسردها، بل هي نتاج تفاعل بين صحافيي الجزيرة وبين مجتمعاتهم والأحداث التي غطوها والبشر الذين تصادف وجودهم في مكان وزمان التغطيات. أي أنها تجربة عامة تقدم زاوية متفردة لقراءة - أو إعادة قراءة - حقبة من التاريخ المعاصر. يضم الكتاب بعض القصص التي عرفناها وآن الأوان أن يعرفها الجميع لتكون مصدر إلهام للصحفيين والمدافعين عن حرية الصحافة، كما كانت ملهمة لنا في الجزيرة خلال السنوات الماضية. لم يتسع الكتاب لتجارب إنسانية أخرى لا تقل شأناً، إما لأن الموت غيب أصحابها دون أن تسنح لهم فرصة البوح بها، أو لأن كشف تفاصيل هذه التجارب ربما يهدد سلامة البعض ممن يعيشون في ظل أنظمة حكم لا تؤمن بحرية التعبير. عملت الجزيرة في محيط بالغ التعقيد، ولولا إيمان العاملين بنهج الرأي والرأي الآخر لما استمرت الجزيرة سوى سنوات قليلة. اليوم نطلق هذا الكتاب لنخلّد بعضاً من قصص هؤلاء العاملين، ولنجدد العهد مع جمهورنا، فكما ثبتت الجزيرة على مبادئها لربع قرن، ستظل ثابتة لعقود قادمة بإذن الله.

الجزيرة.. نهج فريد رئيس مجلس إدارة شبكة الجزيرة الإعلامية | الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني

الأطراف، ممن يقولون إنهم مع الحرية وممن يرفضونها على السواء. منعت من العمل في بلدان عديدة، وأقفلت مكاتبها، بل هوجمت وقصفت واستشهد مراسلوها ومصوروها واعتقلوا وحوكموا. واجهت الجزيرة التحديات بعزم لا يلين، وكان الإنسان أحد أسرار صمودها طوال خمسة وعشرين عاماً. الإنسان الصحفي الذي يقدم الخبر والتحليل الصادق، والإنسان المشاهد الذي وجد في الجزيرة ضالته وملاذه الوحيد لنيل حقه في المعرفة والتعبير عن الرأي.

قبل ربع قرن من الزمان، بدأت الجزيرة مثل نقطة ضوء وحيدة في عالم واسع من حولها لا تكاد تجد فيه من النقاط المضيئة إلا هي. انتشر نورها عاما بعد عام، ووصل صوتها إلى كل البلدان بلغات مختلفة، وربما غدت المشروع الإعلامي الأبرز في العقود الأولى من القرن الجديد. على أن درب شبكة الجزيرة لم يكن، في أحيان كثيرة، سهلا ولا مفروشا بالورود على الدوام. فمنذ يومها الأول كان هناك من أثارت الجزيرة حفيظته فأضمر لها العداء. ووجهت لها كل التهم من كل

15

14

الجزيرة، بقعة ضوء لأحرار العالم

الجزيرة، بقعة ضوء لأحرار العالم نائب الرئيس والعضو المنتدب | الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري فيشبكة الجزيرة الإعلامية

تعلّم معنى أن يكون للفرد حرية الرأي والاختلاف مع غيرهِ حين وسّعت الجزيرة من أفق «الرأي والرأي الآخر». وفي الضفة الأخرى، أدرك الآخر بثقافاته المختلفة، من نكونُ، ومن يكونُ في نظرنَا، حين فرضت الجزيرة مقاربات جديدة للواقع العالمي ولقضايا الإنسان العربي من وجهة نظر عربيّة خالصة. وأزعم أني عايشت الجزيرة منذ أن كانت فكرة ثم رؤية ثم واقعا، ولذلك أعي بشكل قاطع كيف كان الوضع العربي والدولي قبل الجزيرة، وما التأثير الذي أحدثته، وردود الفعل التي ترتبت عليها، والواقع الذي فرضته بعد ولادتها، والمقاومة العنيفة لأعداء القيم التي حملتها الجزيرة، ثم المحاولات لخلق منافسات لها، والدور المميز الذي تقوم به في خدمة الكلمة الحرة والمعلومة الصادقة وخدمة قضايا العدل والحرية والمساواة وتقرير المصير والوقوف إلى جانب هذه القضايا. كنت وزيراً للإعلام حين أنشئت الجزيرة، وكانت بلادي، بقيادة صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير البلاد آنذاك، قد اختطت خطا واضحا في تبني حرية الإعلام والوقوف إلى جانب القضايا العادلة. كانت هذه القيادة مدركة لأهمية رفع القيود عن الإعلام ليتمكن من أداء دوره في التنمية ودعم قضايا الحق والعدل.

لطالما سألتُ نفسي: هل اقتصرت قناة الجزيرة منذ انبعاثها على تغيير الفضاء الإعلامي العربي؟ أم إنها وضعت بصمتها في تغيير نمط تفكيرنا تجاه أنفسنا وتجاه الآخر في وقت واحد؟ وكثيرا ما قفزت إلى ذهني قصة الكهف لافلاطون، وأجراس السؤال تقرع على امتداد السنوات. لقد روى افلاطون على لسان معلمه سقراط كيف ظن مجموعة من السّجناء المقيّدين في الكهف، وخلفهم نارٌ ملتهبة، أنهم يرون الحقيقة وقد عكستها ظلالُ الأشياء على السّور. وما إن خرج أحدهم من الكهف حتّى أدرك أنّ الأشياء في الخارج تختلف عن الأشياء داخله. ويمكننا أن نقيس هذه الأمثولة على واقعنا العربي والدولي بعد أنْ ظهرت الجزيرة، فخرجت من الكهف الإعلامي لتكتشف الحقائق وتنقلها إلى الرأي العام العربي والعالمي. لم يعد بالإمكان طرح سؤال الهويّة: من نحن؟ ومن هو الآخر؟ بعيدًا عّ قدّمته الجزيرة من إجابات وفرضيّات وتصوّرات عن هذين القطبين. فنحن نعرفُ اليوم أكثر من ذي قبل منْ نكونُ بواسطة الجزيرة. المجتمعات التي عاشت الاستبداد تعلم جيّدا مدى تقديرها وبحثها عن الكرامة الإنسانيّة بفضل ما قدّمته الجزيرة، والرأي العام العربي

17

16

الجزيرة، بقعة ضوء لأحرار العالم

لقد نجحت الجزيرة في إقامة الجسور، لا بين المواطن العربي وحقائق ما يدور حوله فقط، بل وجسور التواصل بيننا وبين الآخر، وبرهنت للعالم أنّ العربي، متى أراد أن يبدعَ وينجز، فإنّه قادر على ذلك، لأنّه سليل حضارة تؤمن بالعلم والعمل وتدافع عن كرامة الإنسان أينما كان، وتلك الرسالة الخالدة لديننا الحنيف. لقد حققت الجزيرة خطوات عملاقة في هذا الطريق، ومن حقّنا أن نفخر بدورها على امتداد ربع قرن. إن دور (الجزيرة) وتأثيرها ليس مقصورا على العالم العربي ولغة الضاد، بل تخطاه إلى اللغة الإنجليزية وإلى حد ما إلى لغات أخرى، ، أن 2017 ولا يغيب عن بالي أثناء حملتي لليونسكو في إفريقيا عام اتصل بي رئيس إفريقي ذو مكانة مرموقة وطلب مني أن أزوره في بلده، وهي من الدول التي لم أسع لزيارتها لأنه لا صوت لديها أسعى إليه. كانت آنذاك الحملة لإيقاف الجزيرة على أشدها وذهبت وزرته لأجد أن هدفه هو رسالة إلى القيادة القطرية «أننا في إفريقيا نعتمد على الجزيرة، فلا تلتفتوا لدعوات إسكاتها بل تمسكوا بها وكانوا فخورين بها». وأخيرا وليس آخرا، فإننا نعتز بنقل الجزيرة الأمين والشجاع لانتفاضة حي الشيخ جراح والأقصى وصمود غزة الأبية. تحية للجزيرة وتحية لقيادات قطر الشجاعة الداعمة لها وللعقل المبدع والمقدام الذي كان وراءها فكرة ورؤية وواقعا، ولقيادتها وإدارتها ولطاقمها المبدع والمعطاء.

هذا البرنامج، وكلّما قدّمت تصوّرا قيل لي: «إنه غير كاف ومطلوب هامش أكبر من حيث هامش الحرية وفي نوع الموضوعات التي تتمّ مناقشتها»، حتى توصّلنا إلى صيغة متقدّمة جدّا وجريئة للغاية وكان المشاركون يتردّدون 1994 وغير مسبوقة. وبدأ البرنامج في عام في البداية خوفا، ثم تجرّأوا، وأصبح البرنامج نقطة تحوّلٍ من حيث موضوعاته والمشاركين فيه والإقبال عليه، وكان شعار البرنامج كلمة الإمام الشافعي المعروفة «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». في الرياض للمشاركة في مؤتمر وزراء 1995 وفي مهمّة لي في بداية عام إعلام دول الخليج، وقد كانوا على علم أن هذا آخر مؤتمر أحضره كوزير إعلام لدولة قطر، وكانت الجلسة تشهد مداخلات لتوديعي وإذا بأحد وزراء الإعلام الخليجيين رحمه الله يتدخل ويقول: «لنا طلب أخير عندك قبل أن تترك، وهو أن تلغي برنامج قضايا وآراء في إذاعة قطر فقد أزعجنا كثيرا بهامش الحرية المتاح له وبموضوعاته التي يطرحها». أجبته - غفر الله له - : «لا أستطيع أن أعدك بهذا، بل أعدك بما هو أهم، إن هذا إلاّ بداية والخير قادم» وها هي الجزيرة تولد وتنمو كشجرة طيّبة شامخة تزداد تألقا، وتُثمرُ كلما زدادت التّحديات.

التي 1994 وأشير بصورة خاصة إلى الحرب اليمنية الداخلية عام سعت إلى فصل عرى الوحدة بين الشمال والجنوب، تلك الوحدة . كانت قطر -من منطق مصلحة اليمن 1990 التي تحققت عام ومصلحة المنطقة- حريصة على تعزيز الوحدة، واتخذت موقفا سياسيا داعما لوحدة اليمن. من الطبيعي أن يكون الإعلام أحد أسلحة هذا الدعم، وقد حاولنا ولكن ظلّ إعلامنا دون مستوى آمال سياساتنا. وأعتقد أنّ هذا الحدث وإدراكنا للفجوة بين واقع إعلامنا ورهانات سياساتنا مثّلاَ الدافع إلى التفكير في إنجاز مشروع إعلامي يتخطى التقليدية ويصبحُ نقطة انطلاق في تاريخ الإعلام العربي والدولي. وأشير إلى فكرة حل وزارة الإعلام التي رأى صاحب السمو أمير البلاد آنذاك إلغاءها لارتباط هذه الوزارة آنذاك في عالمنا بخنق الحريات. ، ومنذ ذلك التاريخ لا وزارة إعلام 1995 ألغيت الوزارة بالفعل عام في دولة قطر، وكان هذا إرهاصًا من إرهاصات بزوغ فجر جديد للإعلام يتخطى الطابع التقليدي ويشكل إيذانا بولادة عصر جديد للإعلام في منطقتنا. ومن الإرهاصات والتي تمثل سعي قيادة دولة قطر لخلق واقع إعلامي حديث ومؤثر، ما شهدته إذاعة قطر حين كان للراديو تأثيره وقدرته على تخطي الحدود أكثر من التلفزيون، هو ولادة برنامج «قضايا وآراء» وهو برنامج حواري غير تقليديّ، وكانت إذاعة قطر أكثر الإذاعات سماعا في منطقة الخليج العربي بصورة خاصة والعالم العربي بصورة عامة، وقد طُلب منّي أن أقدّمَ للقيادة تصوّرا عن

19

18

الإعلام.. الحياد والحقيقة

الصور القصصية المنشورة هنا يمكن تقسيمها إلى صنفين رئيسين، وكلاهما يقدم تفاصيل عن الجزيرة يجد فيها المتلقي معرضا مثيرا عن الكثير من التجارب التي عاشها منتسبو الجزيرة والتحديات التي .1996 واجهوها وواجهتها المؤسسة منذ إطلاقها في الأول من نوفمبر الصنف الأول يقدم تجارب شخصية لكتاب هذه النصوص تتعلق بأحداث، عاشوها أو أسهموا في صنعها، رسمت في ذاكرتهم صورا هامة من مسيرة الجزيرة، ابتداء من هواجس التأسيس وحتى عام . بعض هذه الصور ترتبط بأيام 2021 ، الاحتفال بيوبيلها الفضي التأسيس الأولى وبعضها يتعلق بمراحل البناء المختلفة التي توسعت الجزيرة أثناءها لتتحول من قناة إخبارية واحدة إلى شبكة واسعة

الإعلام.. الحياد والحقيقة المدير العام بالوكالة لشبكة الجزيرة الإعلامية | الدكتور مصطفى سواق رئيس لجنة توثيق مسيرة الجزيرة

يروى عن المفكر الجزائري المرحوم مالك بن نبي قوله: «عندما يُستهدف الوطن، يكون الحياد خيانة.» هي عبارة مبهرة حقا تلخص تجربة فكرية، سياسية ووطنية عميقة وثرية. لن أناقش هذه المقولة الهامة ودلالاتها الوطنية والإنسانية والأخلاقية، والتي يمكن أن تكون موضوع مؤلفات ضخمة في فلسفة الأخلاق والسياسة وعلم الاجتماع، ومعيارا هاما في فقه «الوطنية»، وغيره من مجالات الدراسة والبحث، وطبعا في فلسفة الإعلام. أريد هنا أن أستثمر هذه المقولة في توضيح مفهوم «الحياد» و»الحقيقة» في الإعلام، استنادا إلى المواقف التي تتضمنها الصور القصصية التي ننشرها في هذا الكتاب، والتي كتبها الزملاء عن تجاربهم الخاصة، إسهاما منهم في الاحتفاء بالذكرى الخامسة والعشرين لإطلاق الجزيرة، في يوبيلها الفضي. عندما ناقشت لجنة توثيق مسيرة الجزيرة، موضوع هذا الكتاب، في هذه المناسبة الهامة، ركز أعضاؤها على «البعد الإنساني» في مسيرتها، باعتباره عنصرا أساسا، لكن من دون إغلاق الباب أمام مواضيع أخرى قد يفضلها الزملاء، كل حسب تجربته ومنظوره وما عايشه أثناء عمله في هذه المؤسسة. ذلك ما طلبناه من الزملاء المستكتبين.

وأبدع كل في الموضوع الذي كتب فيه، وهو ما يمثل عينة يمكن أن يكتب مثلها زملاء آخرون لديهم تجاربهم التي أرجو أن لا يحرمونا من قراءتها يوما ما. أشكر جميع المسهمين على استجابتهم، رغم انشغالاتهم الكثيرة وضغوط العمل، كما أشكر من أسهم في هذا الكتاب من غير منتسبي الجزيرة ممن يشاركوننا محبة هذه المؤسسة العظيمة وتقديرها، خاصة فيما يتعلق بالبعد الإنساني في إنتاجها وأنشطتها المتنوعة. ومن واجبي أن أنوه هنا أيضا بالجهود المقدرة التي بذلها أعضاء لجنة الكتاب، وهم من أعضاء لجنة توثيق مسيرة الجزيرة، في مراجعة المواد المنشورة. الشكر موصول طبعا للزملاء الذين تحملوا مسؤولية الإشراف التفصيلي المباشر على إعداد الكتاب، سمير الشمايلة ومحمد سيدي و الدكتور الحاج محمد الناسك. يتعرف قارئ هذا الكتاب على الكثير مما لا يشاهده على شاشات الجزيرة ومنصاتها، ولا فيما نشر عنها في مئات الكتب والأطروحات وآلاف المقالات والدراسات في الصحف والمجلات والدوريات ونحوها. إنها مقالات يقدمها منتسبو الجزيرة مباشرة إلى القراء، من دون وساطة.

21

20

الإعلام.. الحياد والحقيقة

«الجزيرة مع الإنسان» شعار ترفعه الجزيرة وتطبقه في كل أعمالها. إنها مع الإنسان بسعيها الدائم لتقديم الحقيقة له، كما هي، من دون تحريف ولا تلوين. إنها تعمل على فضح الفساد والتزوير إعلاء للحقيقة. «الحياد» عند الجزيرة، إذن، ليس إلا التزاما كاملا «بالحقيقة»، وهو يكون بذلك المنطلق السليم لانحياز الجزيرة للإنسان. هذا يعني التزام الجزيرة بتمكين الإنسان عن طريق إمداده بالمعرفة، بكل تفاصيلها الممكنة، إيمانا منها بأن الإنسان المسلح بالمعرفة يملك حق الاختيار وأدواته. لهذا تجد المستبدين والفاسدين يحاربون الجزيرة وينفقون الأموال والوقت جاهدين لتشويه صورتها. إنهم، بحربهم المعلنة على الجزيرة «يستهدفون الحقيقة» ولهذا لا يمكن السكوت عليهم، ولا الحياد تجاههم، «فعندما تستهدف الحقيقة يكون الحياد خيانة عظمى.»

النصوص، أنبهر من قدرة مبدعيها على الجمع بين تلك الشجاعة، التي جعلتهم يتجرؤون على مواجهة الحروب والكوارث الطبيعية ونحوها حتى ينقلوا الحقيقة لجماهير الجزيرة، وبين هذه المشاعر الإنسانية الرقيقة والتعاطف الحميم مع الضحايا. إنها «الشجاعة المهنية» المتجذرة في ضمير الإنسان، صلابة ورقة. إنهم، وكثير غيرهم ممن لم يسهموا في هذا الكتاب لكنهم واجهوا تحديات مماثلة، جديرون «بتاج البطولة» الإعلامية الإنسانية. إنني أشعر بالفخر والاعتزاز لكوني أنتسب لنفس المؤسسة التي ينتسبون إليها وهم المؤمنون بأن «العمل في الجزيرة ليس وظيفة، بل رسالة». أرجو ألا يفهم من كلامي أن هؤلاء المبدعين لم ينتجوا قصصا، بثت ونشرت، تبرز تعاطفهم الإنساني الفياض مع الناس الذين يعانون، ضحايا الحروب والكوارث الطبيعية والمجاعات والظلم ونحو ذلك. لقد أنتجوا من القصص الإنسانية الكثير، مما خلق تعاطفا كبيرا مع الضحايا أدى إلى تلقيهم مساعدات هامة من الخيرين. غير أن مثل هذه القصص كانت تنتج خارج إطار تغطيات الحدث، في إطار نوع خاص من المحتوى الإعلامي الذي لا يتعلق مباشرة بتغطية الأحداث، ويدعى عادة «فيتشر ستوري» (ربما يمكن ترجمته حرفيا بعبارة «قصة الملمح»، وهي ترجمة لا تؤدي الغرض بدقة وأرجو أن يتفق اللغويون والمترجمون على عبارة أصح).

واحد، يرفضها رئيس التحرير من دون تردد. لماذا؟ لأنها صورة «منحازة»، غير متوازنة، جزئية، تتبنى منظورا واحدا وتتجاهل الزوايا الأخرى للمشهد، تفتقر للواقعية، «غير مهنية» الخ، وهي بذلك تكون قد خانت الحقيقة. «الحياد» هنا ضروري، لأن الصورة الكاملة تستدعي أن نقدم الجلاد والضحية، من دون انحياز لأي منهما حتى نحافظ على حق المتلقي في تشكيل الموقف الذي يراه صوابا استنادا إلى استيعابه لكل زوايا المشهد. تقديم المشهد الكامل هو الضمان الجوهري لتقديم «الحقيقة» للمتلقي، وبها فقط يكسب الإعلام مصداقيته ويحقق هدفه: «تمكين الجمهور من المعرفة وبها». لم أقل «الحقيقة الكاملة»، لأن الحقيقة لا تكون إلا كاملة، وإلا فإنها ليست حقيقة. من الواضح حتما أن مصطلح «الحقيقة» هنا لا يعني الحقيقة المطلقة التي يتحدث عنها الفلاسفة مثلا، ولكنها تعني «الحقيقة الوقائعية». والحياد الذي أتحدث عنه هنا يتعلق بالتغطيات الإخبارية، وليس بأشكال أخرى من التقارير والبرامج التي تسمح بتجاوز حدود نوع الحياد الذي أتحدث عنه. أين إذن تلك «المشاعر الغلابة» التي أشرنا إليها سابقا؟ هنا، في هذا الكتاب، نجد صورا رائعة منها تجسد ما اختزنه كتَاب هذه الصور القصصية، بعد أن تمكنوا أعواما عديدة من إنجاز عملهم الإعلامي بكل مهنية، من دون أن ينهاروا أمام حالات إنسانية ينفطر من هولها القلب. لم يفقد هؤلاء الإعلاميون الأفذاذ إنسانيتهم وهم يحافظون في عملهم على أرقى معايير المهنية. كنت، وأنا أقرأ هذه

من القنوات والمنصات والمراكز والإدارات، وما رافق هذه المسيرة من تحديات ونجاحات منقطعة النظير، رغم بعض المآسي التي ما تزال تثير الشجون، خاصة استشهاد زملاء لنا كانوا من طلائع فرسان الحقيقة. نعرف، من خلال أغلب هذه الصور، المسار الخارجي لتاريخ المؤسسة وبناتها. أما الصنف الثاني فيجسد المسار الداخلي / الباطني، وتمثله كتابات تركز على «التجارب الإنسانية» التي واجهها الزملاء أثناء أداء عملهم الميداني. أغلب هؤلاء من المراسلين أو الموفدين لتغطية أحداث هامة، كالحروب والكوارث الطبيعية والمجاعات ونحوها من المآسي الإنسانية. نجد هنا أن الإعلاميين، في مثل هذه الحالات، يواجهون تحديا كبيرا يصل أحيانا إلى مستوى «المحنة». فالإعلامي يجد نفسه ممزقا بين واجبه المهني الذي يفرض عليه تقديم الصورة الكاملة للحدث الذي يغطيه، بعيدا عن مشاعره الخاصة التي تميل به نحو إبراز تعاطفه مع الضحايا، وهو ما يجعله يبدو «حياديا» تجاه حالة لا تقبل «الحياد».فهل تجوز مساواة الجلاد بالضحية في تقرير يقدم الطرفين معا وكأن لكل منهما الحق نفسه في التقرير؟ ألا يبدو هذا، للوهلة الأولى، وكأنه يبرر عمل الجلاد ولو جزئيا؟ ثم إلى أين تذهب تلك «المشاعر الغلابة» التي لا يمكن لقلب بشر أن يخلو منها أو أن يتجنبها وهو يصور بشاعة المشاهد التي يراها أو يكتب عنها تقاريره، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأطفال، مثلا؟ لو أطلق العنان لعواطفه هناك لما بُث تقريره على الشاشة، لأنه لن يكون صورة حقيقية لكل ما حدث، بل يكون مجرد «بكائية» منحازة لطرف

23

22

رحلة شغف

رحلة شغف مدير قناة الجزيرة الإخبارية | أحمد بن سالم اليافعي

في طريقي من بين تفاصيل المشاريع العديدة إلى باب قناة الجزيرة، مررت بالبهو. كان عدد من الزملاء ينتظرونني هناك ليشرحوا لي الشكل الجديد للبهو و»جدار النصر»، حيث سيتم تشييد حائط جائزة 70 بانورامي، تستند عليه عشرات الألواح لتحضن أكثر من دولية، نلناها بكل جدارة في عام واحد. كان ذلك بفضل زميلات وزملاء تملكهم الشغف، فأحرزوا اعترافا عالميا بجدارة المحتوى المقدم، وبفضل جمهور آمن ووثق في «الجزيرة». ساعتها أدركت أن هذه الجزيرة أكبر بكثير من أن تكون مجرد خبر.

والمطالبات بإغلاق مكاتبها خلال خمسة وعشرين عاما، بل تلك الرصاصات الغادرة التي استهدفت زملاءنا، وكنت أسائل نفسي عن الجرم الذي اقترفناه، ومنذ متى أصبحت الصحافة جريمة! في الأسبوع التالي، كنت أجوب مع الفريق أرجاء غرفة الأخبار القديمة، ونحن نقف على المراحل المنجزة من مشروع غرفة الأخبار الجديدة في المقر الرئيس بالدوحة، وذلك بعد أن بدأنا دراسة مشتركة بين غرفة الأخبار والزملاء في الدراسات والبحوث لاستكشاف مدى التغيرّ الحاصل على سلوك الجمهور في التعامل مع المحتوى على مختلف المنصات. كنت أدرك تماما أننا نقود مبادرة جديدة في مفهوم وشكل غرف الأخبار في العالم، أساسه التفاعل مع الجمهور الذي أصبح مرسلا ومستقبلا في عملية الاتصال، بل وناقدا ومشاركا في رجع الصدى، يسأل ويبحث، يطالع ويصوّر، ويعلّق ويعيد توزيع محتوانا على منصاته وحساباته الشخصية. لقد تغّ مفهوم الإعلام، ومعه أصغت الجزيرة، كما في المرة الأولى ، عاما إلى نبض الناس، لتنجح في الحفاظ على تصدرها وكسب 25 قبل مساحات وساحات جديدة في رحلتها القادمة نحو اليوبيل الذهبي بإذن الله.

،2021 ما زلت أذكر تلك الساعة من ظهيرة الخامس عشر من مايو حين خرج الزملاء في غرفة الأخبار بذلك العاجل: «جيش الاحتلال الإسرائيلي يمهل قاطني بناية في غزة تضم مكاتب صحفية عالمية بينها الجزيرة ساعة واحدة لإخلائها». خلال دقائق بدأنا سلسلة من الاتصالات مع المنظمات الحقوقية الدولية والمؤسسات الناشطة في حماية الصحفيين -هذه المرة حماية حياتهم لا حقوقهم. تتالت النداءات، وتعاقبت «العواجل»، وتزاحمت حتى انثنت على بعضها، قبيل انتهاء الساعة، كان الزميل وائل الدحدوح وبقية فريقه يسابقون الصواريخ المنطلقة نحو برج الجلاء، وهم يقطعون عتبات درج البناية للنجاة بحياتهم. ظنّ من أمر بإطلاق الصواريخ لوهلة أنه أسكت الجزيرة. لم يعلم أنها ليست مكاتب من خشب ولا جدرانا من إسمنت، بل هي ذاكرة من لحمٍ ودم، وعدسات من عيون الشاهدين وميكروفونات من صخب الثائرين وهمس المبتلين، وأنهم وإن هدموا مكاتب الجزيرة فقد بنت لها حظوة في قلوب الجماهير. لا أدري ما سرّ الطمأنينة التي حلت عليّ حينئذ. لم يكن يشغلني سوى أمر واحد، هو سلامة الزملاء فقط. لقد تعاقبت على ذاكرتي مشاهد قصف مكاتب الجزيرة في كابل وبغداد، والمداهمات

25

24

ماذا فعل الإنسانفي الأرض؟

العظيمة بفعل المُناخ» أن ارتفاع مستوى مياه البحر سيؤدي في غضون ثلاثين عاماً فقط إلى غرق جميع مدن وقرى دلتا النيل التي تعد سلة الغذاء في مصر. لهذا أطلق بعض الصحفيين على ما يجري في كوكبنا وما يتمخض عنه من تغيرات بيئية ومُناخية اسم «قضية العصر.» لا شك أن الجزيرة في وضع يؤهلها بجدارة لتغطية جوانب قضية العصر هذه، ويُعزى ذلك لسببين على أقل تقدير. أولهما أن رسالة القناة تركز على تغطية الجانب الإنساني في كل خبر أو حدث، وتحرص على أن تكون دائماً صوت المستضعفين والمهمشين، «صوت من لا صوت لهم». هذه الرسالة تتناغم بشكل واضح مع قضية

ماذا فعل الإنسانفي الأرض؟ مدير قناة الجزيرة الإنجليزية | جايلز تريندل

ومع تولي جو بايدن منصب الرئاسة في الولايات المتحدة مطلع العام ، أقرت الإدارة الأمريكية بأزمة المُناخ ووصفتها «بالتهديد 2021 الوجودي». ويبدو أن قضية المُناخ تلعب دور اليد الخفية وراء بعض القضايا السياسية. فمثلاً، في الأعوام العشرة التي سبقت الحرب في سوريا، بسبب هجرة 50% ارتفعت كثافة المدن السكانية لهذا البلد بواقع السكان إلى المدن الكبرى هرباً من خطر الجفاف. وأشارت بعض التقارير إلى أن هذا النوع من النزوح الداخلي كان سبباً مباشراً في القلاقل المجتمعية المتزايدة التي أدت إلى تفجر المظاهرات وبالتالي اندلاع الحرب هناك. ومن المتوقع أن ترتفع حركة الهجرة والنزوح عبر العالم أضعافا مضاعفة في السنوات المقبلة، سواء بسبب اتساع مساحات الأرض القاحلة غير الصالحة لاستقرار الإنسان، أو بسبب ارتفاع مستويات مياه البحر الذي سيؤدي إلى غرق مدن كثيرة. 25 تشير التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة إلى توقعات تتراوح بين مليون إلى مليار مهاجر بفعل العوامل البيئية والمُناخية بحلول عام . وتوقع تقرير ورد في صحيفة (نيويورك تايمز) بعنوان: «الهجرة 2050

لأكون عضواً في لجنة التحكيم 2021 تلقيت الدعوة في شهر يونيو لجوائز مهرجان تحالف «التغطية الإعلامية لقضايا المُناخ»، الذي يهدف إلى تكريم الصحفيين والمؤسسات الإعلامية والإعلاميين الذين أنجزوا تغطيات مميزة لقضايا المُناخ بكل أبعادها. وأبهرني حجم وعُمق التغطية الإعلامية للقضية من طرفي العديد من الأسماء البارزة في عالم الصحافة والإعلام، إلا أن التقارير الإعلامية التي تعرض ما يحدث لكوكبنا الأرض كشفت عن أمور لا تُبشر بالخير. أكدت التقارير والتجارب العلمية أن حرارة كوكب الأرض في ارتفاع وصل إلى مستوياتٍ حرجة، بما يُنذر بسلسلة من الظواهر والحوادث الخطيرة التي لا يمكن التحكم في عواقبها، منها على سبيل المثال لا الحصر، الجفاف وموجات الحر الشديد والحرائق البرية، ناهيك عن الأعاصير والفيضانات. لهذا وصف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الوضع بأن العالم بات يتجه حتماً إلى ارتفاع درجات حرارة كارثي خلال هذا القرن.

27

26

ماذا فعل الإنسانفي الأرض؟

التغير المُناخي، لاسيما أن الفقراء والمهمشين هم من يدفعون في المقام الأول ثمن أعمال الصفوة المسؤولة عن الانبعاثات الكربونية. السبب الثاني هو أن مكانة الجزيرة في الساحة الإعلامية الدولية وشبكة مكاتبها المنتشرة في العالم تجعلها قادرة على تتبع الآثار الناجمة عن هذه القضية الكونية وتبعاتها في ربوع المعمورة. لقد عرضت قناة الجزيرة الإنجليزية عدداً كبيراً من البرامج والتقارير المهمة لمراسلينا الموجودين على خط التماس الأول، وبرهنت خلالها على الآثار الوخيمة للانهيار البيئي. وقدمت القناة محتوىً صحفيا عميقاً ومستفيضاً طرح الحلول في سياق رصين تؤيده البراهين القاطعة وتعززه القصص الواقعية المؤثرة. ولكن بالنظر إلى عِظَم هذه القضية، يطرأ دوماً هذا السؤال ا مُلّح: «هل نقوم بما هو واجب علينا ونقدم ما فيه الكفاية تجاه هذا الأمر؟» شراكةً مع تحالف «التغطية 2021 لقد أبرمت الجزيرة مطلع العام 400 الإعلامية لقضايا المُناخ»، وهي جهة غير ربحية تضم أكثر من مؤسسة إعلامية، وتلتزم بتغطية مختلف جوانب قضية التغير المُناخي. ولم تتوقف جهود الجزيرة عند هذا الحد، بل انضمت أيضا إلى نخبة دور الصحافة والنشر العالمية مثل (ذا غارديان)، و(كولومبيا جورناليزم ريفيو)، و(ذا نيشن)، و(سيانتيفيك أميركا)، و(أساهي شيمبون) الرائدة في اليابان، وغيرها في المطالبة بإقرار قضية المناخ أزمةً عالميةً طارئةً، كما وصفها العلماء.

ستأتي ساعة الحقيقة حين يتعين علينا جميعاً، نحن سكان كوكب الأرض، مواجهة هذا الخطر الداهم الذي أشعلنا بأيدينا فتيلَه، الخطر الذي يهدد وجود الجنس البشري على هذا الكوكب. وأخيراً، فإنه، ومن خلال تغطية الجزيرة لهذه القضية، قضية العصر، تتجلى أهمية دور الصحفي أكثر من أي وقت مضى.

وجاءت جائحة كورونا لتزيد الطينَ بِلة. لقد أظهرت أهمية دور الإعلام في توعية الجمهور بشأن هذه الأزمة التي كان لتبعاتها آثار مباشرة على كل فرد على ظهر المعمورة. ورغم فظاعة الإحصائيات التي تبين أعداد الوفيات من ضحايا الفيروس، فإنها تعد مجرد «غيض من فيض» إذا ما قورنت بالأرقام المتوقعة لأزمة التغير المُناخي. ومع احتفال الجزيرة باليوبيل الفضي، نطمح إلى أن تواصل الشبكة وصحفيوها أداء رسالتهم النبيلة في نقل الحقيقة، والتركيز بصورة أعمق على تغطية قضية المُناخ التي تؤثر على كوكبنا. إن العلم، وكذلك الوقائع الجارية أمام أعيننا، يقدمان أدلةً دامغةً لا يمكن دحضها. هنا تحضرني أغنية (بوب ديلان): «لستَ في حاجة إلى خبير في الأرصاد لتعرف في أي اتجاه تهب الرياح.» نقلُ الحقيقة بأمانة وموضوعية هو محور رسالة الجزيرة وبوصلة عملها، والتحليل المستفيض والمتعمق بُغية توعية الناس بشـأن ما يجري حولهم هو في صميم هذه الرسالة.

29

28

الجزيرة تزداد شبابا علىمر السنين

وكي لا نحيد عن ميثاق الشرف هذا، قمنا بحفر بنوده العشرة على مكاتب صحفيي القناة، كي تظل هذه القيم النبيلة نصب أعيننا جميعاً في كل حين. هناك مقولة شائعة في بلدان البلقان مفادها أن قيمة الإنسان والسيارة تتحدد ليس بعُمرهما فحسب، ولكن أيضـاً بعدد الكيلومترات التي قطعها كل منهما. فكلما زاد العمر وزاد المسير، قلت القيمة. وبالرغم من مصداقية هذه المقولة، فإن شبكة الجزيرة الإعلامية أثبتت العكس تماماً، فها هو ربع قرن قد مضى، ولكن الجزيرة تزداد قوةً وعنفواناً في تحدي الصعاب، وتزداد ثراءً في المعارف وتراكم الخبرات، لتعزز قاعدتها المتينة التي يستند إليها هذا الصرح الإعلامي البارز وليواصل نجاحاته بمرو الزمن، لتظل دوماً «الجزيرة» كما عهدها الناس. ستواصل الجزيرة بلقان جهودها بكل تفانٍ وإخلاص لتسهم في مجد هذا الصرح العملاق، ولتكون دوماً جزءًا من الحل في مواجهة كل التحديات. نحن القناة الأصغر عُمراً ضمن عائلة الجزيرة الكبيرة التي قطعت عُمراً لتزداد نضجاً مع الحفاظ على شبابها وعزيمتها. ستظل الجزيرة بلقان شريكاً فاعلاً في مسيرة شبكة الجزيرة الإعلامية نحو بناء مجتمعٍ عالمي أرقى.

الجزيرة تزداد شباباعلىمر السنين مدير قناة الجزيرة بلقان | طارق دوديتش

والعمل المتفاني ثانية بثانية، ساعة بساعة، يوما بيوم وعاما تلوالآخر. وتتحقق المصداقية وترى ثمار جهدك عبر هذه الرحلة الشاقة في الثقة التي يمنحها لك الجمهور والاعتراف بأنك متفرّد عن الآخرين بفضل الموضوعية والمهنية والمصداقية. ومع ظهور العديد من القنوات الإخبارية والعشرات من المنصات الجديدة كل يوم، يتعين علينا مواصلة هذا العمل الجاد للحفاظ على الثقة التي منحنا إياها جمهور المشاهدين، وتعزيز هذا التفرد الذي حققته شبكة الجزيرة بكل قنواتها، بما فيها الجزيرة بلقان. إن الصحافة مهنة لا تعرف التنازلات، وتتطلب السعي الحثيث وراء الحقيقة لنقل الخبر بكل دقة وفي الوقت المناسب. ولكن هذا النوع من الصحافة الذي تنتهجه الجزيرة لا يروق للكثير من الساسة أو الحكومات أو حتى بعض الأشخاص من ذوي النفوذ. لقد شهدنا حالات كثيرة تعرض فيها صحفيو الجزيرة ومكاتبها للاعتداء والتخريب، واعتقل بعضهم دون جُرم، إضافة إلى من استشهدوا في الميدان. ورغم كل ذلك، تواصل الجزيرة عملها بكل عزم متمسكةً بميثاق الشرف المهني للشبكة.

كانت الاستعدادات تجري على قدمٍ وساق قبيل تدشين قناة الجزيرة . في الوقت ذاته كانت شبكة الجزيرة تجري 2011 بلقان في أكتوبر الترتيبات النهائية للاحتفال بالذكرى الخامسة عشرة لتأسيسها. كانت فرق العمل من صحفيين ومحررين ومراسلين في الجزيرة بلقان جاهزة، . إلا أننا كنا في حاجة للمزيد من الوقت للتأكد من بعض الأمور الفنية والتشغيلية. اقترحت على إدارة الشبكة بالدوحة أن يؤجل تدشين بث القناة أياما معدودة حتى الحادي عشر بدلاً من الأول من شهر نوفمبر. وع ّت عن تفاؤلي بتاريخ الحادي عشر من نوفمبر عام ألفين وأحد عشر ) لتكون انطلاقة مبشرة. وافقت الإدارة على هذا المقترح، 11/11/11( لتصبح الجزيرة بلقان اعتباراً من ذلك التاريخ - وبكل فخر - جزءًا من أكبر وأهم شبكة إعلامية في العالم. والآن، وبعد عشر سنوات على انطلاقة الجزيرة بلقان، وتزامنا مع احتفال شبكة الجزيرة باليوبيل الفضي، وجب الوقوف للتأمل للحظات – حتى وإن كانت وجيزة – لنتذكر ما أنجزناه ولمواصلة المسير قُدماً بعزيمة أكبر. أن تحافظ مؤسسة إعلامية إخبارية على مصداقيتها في عصرنا هذا هي بلا شك مهمة صعبة، وتتطلب الكثير من الجهد والمثابرة

31

30

التجربة الوثائقية

التجربة الوثائقية مدير قناة الجزيرة الوثائقية | أحمد محفوظ

قناة عربية متخصصة في الفيلم الوثائقي، تعرض أفلاما وثائقية على مدار الساعة؟ كيف تصبح شاشة الجزيرة الوثائقية مختلفة ومميزة، ليس ضمن باقي القنوات العربية، بل كذلك داخل شبكة الجزيرة، لكي نضع ملامح هوية فنية مميزة للقناة الوثائقية؟ كان محورنا الثاني هو صناع الأفلام. ففي وقت تراجعت فيه صناعة الأفلام الوثائقية في العالم العربي بصورة كبيرة، كان لا بد من جذب صانعي الأفلام، من منتجين ومخرجين وحتى العاملين في الفرق الإنتاجية المختلفة، للعمل في هذا النوع من الصناعة التي تتطلب دورة إنتاجية طويلة ليصل الفيلم إلى رحلته الأخيرة ونسخته النهائية، فضلا عما يحيط بذلك من الظروف الإنتاجية الصعبة، خصوصا في العالم العربي. كان لزاما علينا تكوين شبكة من المنتجين والمخرجين يعملون لشاشة الجزيرة الوثائقية. كانت لدنيا أيضا رؤية في صناعة تيار سينمائي فتي يستثمر في المواهب الموجودة على مستوى العالم العربي، ويساهم في خلق المدرسة الخاصة للجزيرة الوثائقية وأسلوبها الخاص من عبق اللغة السينمائية الجميلة. على جانب آخر، كان لا بد من اختيار فريق عمل مبدع ومتمكن من أدوات صناعة الفيلم الوثائقي، يمكنه تحقيق تلك الرؤية والإجابة على كل الأسئلة السابقة بشكل يتعدى حدود العمل الإداري إلى

ما زلت أذكر أثناء الدراسة بالمعهد العالي للسينما ندرة المراجع في ذلك الوقت لدارسي السينما باللغة العربية، فضلا عن أن كثيرا من الكتب المتوفرة كانت عبارة عن ترجمات متخصصة أنجزها عدد من المترجمين وبعض صناع الأفلام والباحثين في السينما. ما زلت أذكر كذلك كم المشقة التي كنا نعانيها لمشاهدة الأفلام السينمائية في ذلك الوقت، سواء العربية منها أو الأجنبية، لعدم توفر المنصات والشاشات المتخصصة، والندرة الشديدة في الأفلام الوثائقية. كان ذلك عاملا هاما كان له الأثر الكبير في وضع الرؤية الاستراتيجية والرسالة العامة لقناة الجزيرة الوثائقية. عندما كلفت من طرف الإدارة العليا بشبكة الجزيرة الإعلامية بوضع رؤية تطويرية فنية وتشغيلية لقناة الجزيرة الوثائقية، كان لا بد من العمل على عدة محاور، أولها الجمهور، الذي كان أسيرا لصورة ذهنية نمطية وقاصرة عن الأفلام الوثائقية. كانت تلك الأفلام إما ناطقة باسم نظام حاكم أو في قالب دعائي، أو عبارة عن أفلام إخبارية نمطية، ثقيلة الظل أو متعالية على المتلقي العادي، فضلا عن أفلام البيئة والحيوانات. وهنا كان التحدي، كيف يمكن أن نعيد الثقة للجمهور مرة أخرى في الفيلم الوثائقي نوع سينمائي مختلف وممتع؟ كيف يمكن أن نزيد جرعة التذوق لدى هذا المشاهد؟ كيف يمكن أن ندعم الشاشة بمشاهدين لديهم هذا الشغف لمشاهدة أول

33

32

التجربة الوثائقية

لقناة الجزيرة الوثائقية تجربة رائدة، ليس فقط في مجال الأفلام الوثائقية، بل كمشروع ثقافي ضخم تكاملت عناصره ليجعل القناة علامة فارقة في تاريخ الإعلام والثقافة العربية.

المجال الإبداعي الرحب. هكذا عمل فريق الوثائقية على إطلاق أول قناة وثائقية عربية تحوي كل أنواع المدارس الفنية للفيلم الوثائقي، بحيث تقدم أفلاما وثائقية عربية بجودة عالمية. من هنا بدأ العمل على زوايا المثلث الثلاث: الجمهور، وصناع الأفلام، وفريق العمل. فلإقناع الجمهور بالعودة لمشاهدة أفلام وثائقية مختلفة ومميزة عما عهدها، كان لا بد من العمل على اتساع رقعة المحتوى المعروض على الشاشة رأسيا وأفقيا. رأسيا تعني إيجاد زخم وتنوع من الأفلام لا تسيطر عليه نوعية واحدة أو لون واحد. أما أفقيا فتعني التمدد الجغرافي الكبير لتغطية المدارس السينمائية كافة، فضلا عن التنوع الجغرافي والثقافي الذي ركزت عليه شاشة الوثائقية منذ يومها الأول، لتكون منبرا ثقافيا مميزا ومنحازا إلى الإنسان. ترجمت القناة ذلك في أفلامها ذات البعد الثقافي الثابت عوضا عن الآني المتغير، حيث ابتعدت القناة عن أفلام الأحداث الجارية وركزت على كل ما يجمع الإنسان العربي ويعبر عن تنوعه. هذا ما وضع الجزيرة الوثائقية في مكانة مميزة وسط الساحة الإعلامية والثقافية العربية، متجاوزة كل المساحات الضيقة، فبرزت كمشروع ثقافي عربي جامع يشكل قوة ناعمة مؤثرة ومختلفة داخل شبكة الجزيرة. يمكنني القول إن حصاد هذه التجربة الفريدة يتمثل اليوم في تملك عنوان وثائقي، فضلا عن شراء 2500 كنوز وثائقية عربية تصل لنحو وعرض آلاف الساعات من أنحاء العالم، ما يجعل التجربة الوثائقية

35

34

عامانفي قمرة القيادة

لقد كشفت تحقيقات الجزيرة خلال السنوات الأخيرة قضايا فساد وفضائح سياسية كبيرة، حاول البعض إخفاءها سنين طويلة، ووصل صدى وثائقيات الشبكة الاستقصائية أرجاء العالم من أستراليا إلى الولايات المتحدة، وتصدرت مواضيعها عناوين الصحف ونشرات الأخبار، وحصدت جوائز عالمية مرموقة. وفي مجال التوزيع، توسعنا في إيصال محتوانا الإخباري لتمكين أكبر عدد من المشاهدين حول العالم من متابعتنا، ودخلنا أسواقا جديدة، عبر منصات البث وتطبيقات المحتوى الرقمي. رفعت هذه الاستراتيجية مستوى المشاهدة وساعدتنا في الحفاظ على الصدارة. ولم نغفل عن الجانب التكنولوجي والإبداعي. أطلقنا مشروعا متكاملاً للتحول التقني في كل قنواتنا ومنصاتنا، اعتمد أحدث ما توصلت إليه التكنلوجيا في مجال البث والتشغيل والإنتاج والبنية التحتية وإدارة الاستديوهات. وقد تضمن هذا المشروع الكبير تحويل أرشيف الشبكة -منذ انطلاقتها- إلى أرشيف رقمي متطور، مما سهل كثيراً عملية الإنتاج الإعلامي، وبات الصحفي في الجزيرة اليوم قادرا على الوصول إلى أي مقطع أو صورة في الأرشيف بضغطة زر واحدة. ولعل من أبرز التحديات التي أرى أننا حولناها إلى نجاح ونقطة انطلاق جديدة للشبكة، قدرتنا على بناء أسس للعمل بشكل استراتيجي، بناء على أفكار ومبادرات نابعة من رؤية مستقبلية تستشرف التطور المتوقع في مجال العمل الإعلامي، وتجمع بين الإنتاج الإعلامي التقليدي، إن صح التعبير، والإعلام الجديد المعتمد على المنصات الرقمية.

عامانفيقمرة القيادة المدير العام السابق لشبكة الجزيرة الإعلامية | الشيخ أحمد بن جاسم آل ثاني

الجزيرة ومديرو الأخبار في قنواتها يتعاملون مع هذا السبق بتأن ومهنية عالية. كانوا يدققون في كل كلمة وعبارة قبل الموافقة على بث الخبر على الشاشة، ويحرصون على التأكد من صحته من مصادر متعددة. لقد تعلمت خلال الفترة التي قضيتها بين كوكبة صحفيي الجزيرة وإعلامييها المخضرمين، أن من أهم أعمدة نجاح الشبكة وتفوقها المزج الفريد بين خبرة العاملين فيها والتزامهم التام بضوابط العمل الإعلامي وميثاق الشرف المهني الذي اعتمدته الشبكة منذ إنشائها. لقد كنت حريصاً إبان فترة إدارتي للشبكة على أن أبذل أقصى جهد ممكن لضمان بقاء الجزيرة في قمة الهرم الإعلامي العالمي، سواء كان ذلك من خلال اعتماد مبادرات ومشاريع جديدة تُحسن الشكل ولا تغفل عن تطوير المضمون، أو بتوسيع مساحة حضور قنواتنا ومنصاتنا جغرافياً، وإطلاق برامج وقنوات جديدة بلغات مختلفة. وفي هذا المسعى، عملنا على تأسيس وحدة متخصصة في الصحافة الاستقصائية، قدمت من خلالها الجزيرة نظرة معمقة لمواضيع وقضايا مخفية، في وقت يشهد فيه هذا المجال من العمل الصحفي قصوراً كبيراً على مستوى العالم، وعزوفاً من المؤسسات والقنوات الأخرى بسبب كلفته الباهظة والعقبات الكثيرة التي تعترض الصحفيين الساعين إلى سبر أغوار الملفات الشائكة.

أمضيت في إدارة شبكة الجزيرة الإعلامية عامين إلا قليلا. وكان كل يوم فيهما يختلف عن سابقه. فالتحديات كثيرة ومتجددة، والعمل لا يتوقف لإنجاز الخطط والوصول إلى الأهداف المرسومة. كنا كلما حققنا إنجازاً وضعنا خطة للوصول إلى هدف جديد. في خضم تنافس محتدم مع مؤسسات إعلامية عالمية للوصول إلى الخبر وتحقيق السبق، وهو تنافس فرض علينا مواكبة التطورات التقنية المتسارعة في مجالات صناعة الإعلام المتشعبة. قبل أن أتولى مهمة إدارة الشبكة، كنت أعي أن الجزيرة مشروع إعلامي سابق لعصره. إلا أنني -كغيري من مشاهديها - لم أكن مطلعاً على تفاصيل هذا المشروع، والجهد الذي يبذل لتقديم المنتج المتميز الذي نراه على شاشاتها. فالمحتوى الذي تقدمه الجزيرة يعتمد على أكبر شبكة للتبادل الإخباري، تضم عشرات المكاتب المنتشرة في أنحاء المعمورة، ومجموعة مراسلين يعملون كخلية نحل لا تهدأ، وغرف أخبار تبث على مدار الساعة، يعمل فيها صحفيون ومنتجون يبذلون جهداً استثنائيا للتأكد من صدق الخبر والإحاطة بحيثياته وتداعياته، رغم مغريات الوصول قبل المنافسين. في الجزيرة الخبر الصادق الموثوق أولى دائماً من السبق. وأذكر أن أخباراً حصرية عاجلة كانت تردنا من مصادر خاصة. ورغم أهميتها، كان صحفيو

39

38

عامانفي قمرة القيادة

وفي كل ركن وخلف كل كاميرا أو أمامها، في المكاتب وقاعات التدريب وورش العمل ومنتديات الدراسات، كانت هناك قصة ملهمة أبطالها زملاء آمنوا برسالة الجزيرة ورؤيتها. كنت أرى كل يوم الإصرار في أعين كل من عمل في الشبكة، وعانقت الشجاعة والثبات في قلوبهم. لقد كانوا بحق فرسانا يذودون عن حق الناس في المعرفة، ويقفون إلى جانب الإنسان حيثما كان. ومن أجل ذلك دفع بعضهم أثمانا باهظة من صحتهم وحريتهم ودمائهم. هذا سر الجزيرة، وهكذا ستبقى في مقدمة الركب، قبلة للباحثين عن الخبر الصادق والرأي الحر والمعرفة الواعية.

لقد كلفت بمهمة إدارة الشبكة بالتزامن مع ذكرى انطلاقتها الخامسة عشرة، وكان التحدي الأبرز حينها أن تبقى الجزيرة في المكانة المرموقة التي وصلت إليها بعد تغطيتها المتميزة لأحداث الربيع العربي. وبحمد الله ظلت قنواتنا خلال العامين التاليين متقدمة على منافسيها بفارق كبير، وفق الإحصاءات والدراسات التي نشرتها مؤسسات متخصصة حينها. لقد كانت الأيام التي قضيتها في «قمرة قيادة الجزيرة» ملهمة ومحفزة، ولم تمثل فقط إضافة نوعية لمساري المهني، بل كانت إضافة مهمة لشخصيتي وتكويني الإنساني، ومثلت فترتي في الجزيرة نقطة تحول فكرية ومعرفية. كان الاجتهاد والعمل الإبداعي حاضراً في كل عمل أنجزه الصحفيون والفنيون والإداريون في الشبكة، سواء في غرف الأخبار والاستوديوهات أو في الميدان.

41

40

ربيع لا ينتهي

ردهات أهل السلطة والمال إلى جنبات الشوارع والميادين، وقدمت بمهنية عالية سياسات تحريرية وضعت الإنسان في المركز. الجزيرة ليست سرا عصيا على الفهم، ولا لغزا يحتاج كثير استقصاء. إنها ببساطة الحالة الطبيعية لما ينبغي أن يكون عليه الإعلام الحر. حالة يصوغها نخبة من الإعلاميين ممن يعتنقون القيم العليا لمهنة الصحافة، متنوعين في أفكارهم وأعراقهم وجنسياتهم، لكنهم مجمعون على ماهية الشبكة: منبر تعددي ينشد الحقيقة في إطار مؤسسي، منبر وجد في الدوحة وأهلها خير سند، مما منح الجزيرة حرية وإمكانات، وأطلق العنان لتجربة صارت الأجمل والأروع. طوال السنوات التي قضيتها مراسلا للجزيرة في إفريقيا وأفغانستان والعراق، أدركت أن الأداة الأهم في «صحافة العمق» هي فهم البنية النفسية والثقافية للشعوب التي نغطي أخبارها. لقد تفوقت الجزيرة في ذلك، فبنت أوسع شبكة تغطية ميدانية بمراسلين فهموا هذه الشعوب وخبروا تاريخها وثقافتها ومكامن التميز فيها، فوضعوا الخبر في سياقه، ونقلوه من مجال المعلومة إلى مجال المعرفة. وفي هذه السنوات من السيولة الإعلامية التي فاقمتها وسائل التواصل الاجتماعي، تكتسب صحافة العمق أهمية أكبر من أي وقت مضى، لتصبح ضرورة لا غنى عنها في طريق الشعوب نحو الوعي والإدراك، بعيدا عن الإشاعة ونظريات المؤامرة وتوظيف الخبر. «روح الجزيرة» مصطلح استخدمناه للاحتفال بالعشرية الأولى لقناة الجزيرة. روح الجزيرة هي الانحياز للإنسان المهمش، وللمجتمعات المقهورة، ولقيم الحرية وحق الناس في معرفة نزيهة. وما زلت أعتقد

ربيع لا ينتهي المدير العام السابق لشبكة الجزيرة الإعلامية | وضاح خنفر

توزع الحلوى. سيارتي تشق الجموع ببطء وحذر، وفجأة أجد باب السيارة قد فُتح، لقد تعرف عليّ بعض المحتفلين، فأرادوا التعبير عن شكرهم للجزيرة بالعناق ودموع الفرح. خرجت من السيارة، والتحمت بالناس، وفاضت مشاعري دمعا. كانت هذه هي اللحظة الأسمى في مسيرتي الإدارية التي استمرت ثماني سنوات. الجزيرة هي الناس؛ نبضهم، أحلامهم، آمالهم، آلامهم ووعيهم الجمعي. ولأنها كذلك صارت رافدا طبيعيا في حياتهم. لقد فهمت الجزيرة نبض الجماهير، وانحازت للناس، فارتقت بالإعلام من

بعد يوم تاريخي ازدانت فيه الشاشة بعاجل: الاحتفالات تعم الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، غادرت غرفة أخبار الجزيرة. قدت سيارتي عبر الطريق المعتاد؛ شارع الكورنيش بالدوحة. عشرات الأفكار والمشاعر تحتشد في نفسي، يظللها إرهاق شديد بعد ليال من السهر الطويل. هناك على ضفاف مياه الخليج الهادئة، بدأت أرى جموعا من الناس تهرول ملتحقة بمجموعات أخرى خرجت بعفوية تامة، من جنسيات وعرقيات متعددة مبتهجة بسقوط الرئيس المصري محمد حسني مبارك. ازدحم الطريق بالمحتفلين؛ مجموعة تردد الأهازيج وأخرى

، اقترح جورج بوش 2005 عام على رئيس الوزراء البريطاني حينها، توني بلير، قصف مقر الجزيرة في الدوحة.

43

42

ربيع لا ينتهي

فقد التقطت عشرات القنوات المختلفة بث الجزيرة من موقعها على الإنترنت، وأعادت بثها عبر شاشاتها، وإذ بالجزيرة تعود إلى مشاهديها في زمن قصير. ميزة الجزيرة أنها لا تخشى التجديد ولا تخاف التطور، لذلك وجدت عبر مراحل عديدة نفسها تلتقط خيوط المستقبل وتواصل عملها رغم المتغيرات الجامحة، سياسية أو اجتماعية أو تقنية، لقد واصلت الجزيرة مسيرتها لتحتفل بربع قرن من العطاء. عندما خرجت من سيارتي والتحمت بجموع المحتفلين في تلك الليلة الفريدة قبل عقد من الزمان، تذكرت أولئك الذين قدموا أرواحهم من زملائنا من أجل الحقيقة. إنهم من زودنا بربيع لا ينتهي؛ بالطاقة اللازمة للمضي في الطريق رغم كل الصعاب، وجعلوا من الجزيرة منبرا للكلمة الصادقة مهما كانت التضحيات.

مسيرتها بمهنية وصبر استراتيجي، وبالطبع ما كان ذلك ليتم لولا صمود القيادة القطرية في وجه كل هذه الضغوط، شجاعة نادرة، أتاحت لنا أن نستمر بعملنا، حتى اجتزنا تلك المرحلة العصيبة. إن الأحداث على الأرض أثبتت مجددا أن تغطية الجزيرة للشأن العراقي كانت أصدق وصفا وأعمق من التغطيات الإعلامية الغربية، فقد اشتبك الأمريكيون مع المقاومة العراقية، وانشغلوا بجحيم عراقي لم يكونوا قد حسبوا له حسابا. أما الواقع العربي فقد واصل انحداره صوب التردي والتفكك، ووقفت الجزيرة مدافعة عن حق الإنسان العربي في المعرفة، وحقه في الحرية والكرامة. لم نر أنفسنا يوما حزبا سياسيا ولا ثوارا، بل كنا صحفيين وحسب، لكننا كنا نعلم أن الواقع العربي لا يمكن أن يستمر على حاله. أذكر أننا كنا منشغلين بسبق صحفي حول أوراق المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، عندما بدأت المظاهرات في تونس. لم نتوقع حينها أن تكون هذه هي شرارة البداية لثورات تجتاح العالم العربي. ورغم أننا منزرعون في الضمير الشعبي العربي، إلا أن الشارع كان متقدما علينا في تحركاته. فاجأنا التوقيت وتسارع الأحداث. لم يكن للجزيرة حضور في تونس. ومع انتقال الثورة إلى مصر سرعان ما سيغلق مكتبها في القاهرة، وتُحظَر إشارة البث عبر الأقمار الاصطناعية. وجدنا أنفسنا معزولين تماما، لا أحد يشاهدنا. عندها تجلى إبداع غرفة أخبار الجزيرة عبر أصغر صحفييها سنا، فريق الإعلام الجديد -كما كان يُسمى وقتها- قاموا بتحويل البث إلى مواقع الإنترنت، وتواصلوا مع الناس لإعلامهم بالطريقة الوحيدة لمتابعة الجزيرة. لقد كانت لحظة رائعة، تجلى فيها التحام الناس بالجزيرة.

أن هذه الروح هي التي مكنت الشبكة من الثبات على نهجها التحريري في أكثر مناطق العالم اشتعالا، هذه الروح تربط الخط التحريري بالوجدان الشعبي، وتربط العاملين بالجزيرة برسالتها الممتدة، وتربط الجميع بأفق أوسع بكثير من الإعلام الربحي أو الإعلام الرسمي. التحام الجزيرة بالناس منحها ميزة فريدة؛ أنها أكثر عمقا في وصف الواقع والتنبؤ بمآلاته. ، وقتها كانت الجزيرة تخوض معركة على 2005 تعود بي الذاكرة لعام جبهات متعددة: إدارة جورج بوش أعلنت عداءها للشبكة، عداء وصل حد الجنون، فاقترح جورج بوش على رئيس الوزراء البريطاني حينها، توني بلير، قصف مقر الجزيرة في الدوحة. القصف لم يتم، كما علمت لاحقا، بسبب تدخل وزير الخارجية الأميركي يومها كولن باول، الذي وجه حديثه للرئيس مذكرا إياه أن القوات الأمريكية جاءت إلى العراق لنشر الديمقراطية، فلا يحسن بها أن تبدأ بقصف مقر أكبر مؤسسة إعلامية عربية. القصف لم يتم، لكن المضايقات والحملات المعادية من قبل قيادات التحالف الدولي على العراق تصاعدت، بحجة أن الجزيرة تمنح الإرهابيين منبرا. بالإضافة إلى ذلك، كانت الأنظمة العربية تواصل الضغط على الجزيرة بكل وسيلة ممكنة، تعتقل المراسلين وتغلق المكاتب وتبث الإشاعات عن القناة ومصادر تمويلها. لقد تعددت الاتهامات وبلغت حدودا مضحكة، من الاتهام بأن الجزيرة أداة صهيونية أسسها الموساد، إلى وصفها بقناة أسامة بن لادن. كانت أياما عصيبة، لكن الشبكة واصلت

45

44

الجزيرة.. انبثاق الفكرة

الجزيرة.. انبثاق الفكرة المدير السابق لقناة الجزيرة | محمد جاسم العلي

نشرنا إعلانات في الصحف العربية، مثل صحيفة «الحياة» و»الشرق الأوسط»، نطلب صحفيين ومنتجين ومحررين ومذيعين وفنيين للعمل في مشروع القناة والتي أطلق عليها في ذلك الوقت اسم «الجزيرة». بدأت تصلنا سير ذاتية، صنفناها بحسب البلدان، ثم ذهبت أنا والزملاء محمود السهلاوي نائب رئيس مجلس إدارة الجزيرة آنذاك، وحسين جعفر، وعدنان الشريف في جولة لمقابلة المترشحين. أجرينا امتحانات ومقابلات في باريس ولندن التي . لما وصلنا 1996 وصلناها على ما أظن في أواخر إبريل أو بداية مايو إلى العاصمة البريطانية، كان العاملون في تلفزيون بي بي سي العربي قد تسلموا خطابات إنهاء خدماتهم في القناة. لم نكن نعلم بالخبر. كنا نسمع عن الخلاف بين بي بي سي وأوربت، لكن لم نكن نتوقع

ربما أول قطري يذهب لمساعدة دولة خليجية في إنشاء مؤسسة إعلامية من هذا الحجم. انتدبت من دولة قطر للعمل في مشروع تلفزيون الشارقة، واستغرق العمل في المشروع نحو سنة ونصف حتى بدأ البث، لأعود إلى . وفي العام 1994 الدوحة وأتولى منصب مساعد مدير التلفزيون عام التالي بدأت فكرة الجزيرة. كان مجلس إدارة المشروع الجديد يجتمع باستمرار برئاسة الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني. بلغني أن اسمي طرح خلال أحد الاجتماعات لأصبح عضواً في المجلس. بالفعل، بعد نحو أسبوعين استدعيت لأشغل المنصب. هكذا بدأت مسيرة جديدة في رحلتي المهنية سيكون لها ما بعدها. تم البدء ببناء 1995 كانت الجزيرة حينها فكرة على الورق. في العام . كان التاريخ 1996 استديوهات المحطة ومكاتبها. كنا في شهر فبراير المقرر للانطلاقة في شهر يونيو من العام نفسه، وهو ما اعتبرته أمرا مستحيلاً. وهكذا تقرر أن يكون العمل على ثلاثة مسارات متوازية لإنجاز متطلبات المشروع في أسرع وقت ممكن، مسار استكمال الأجهزة التقنية ومسار تأسيس المبنى، ومسار اختيار الموظفين.

دائماً ما أقول إن علاقتي بالجزيرة عصية على التفسير، فمن الصعب أن أجد كلمات تصف المراحل التي عايشتها رفقة الفريق المؤسس لهذا المشروع، إن تفاصيل يومياتنا خلال مرحلة تخلق الفكرة وتحولها إلى مؤسسة إعلامية رائدة كانت علامة مؤشرة على أن هذه القناة التي بدأت من استديو صغير، ستمثل نقلة في تاريخ الإعلام العربي. . كنت حينها طالبا في المرحلة 1975 بدأت قصتي مع الإعلام سنة الثانوية، وعملت موظفا خلال فترة الصيف في تلفزيون قطر، مدة ثلاثة أشهر. كانت نتيجتي في الثانوية العامة تؤهلني للالتحاق بجامعة قطر، لذا قدمت استقالتي من التلفزيون لأكمل دراستي. لكن أحد الأصدقاء قال لي: لماذا تستقيل يا محمد؟ يمكنك الجمع بين الدراسة الأكاديمية والعمل الإعلامي، تدرس في الصباح بالجامعة وتعمل ليلاً في التلفزيون، الذي كان يبدأ إرساله في الرابعة مساء. أقنعني رأيه، وبدأت العمل في قسم التنفيذ والتنسيق والإخراج مساء. في الوقت نفسه تابعت دراستي في الجامعة صباحا. هكذا بدأت مسيرتي الإعلامية. تخرجت من الجامعة، وتوليت منصب المراقب العام 1979 في سنة لبرامج تلفزيون قطر حتى نهاية عقد الثمانينات، ثم انتقلت إلى وزارة الإعلام. قبل أن أتلقى عرضا من حكومة الشارقة، للمشاركة في مشروع إطلاق قناة فضائية هناك. وبما أنني أحب التحدي، كنت

47

46

الجزيرة.. انبثاق الفكرة

لم تقتصر التحديات على إنجاز التغطيات أو إنتاج المحتوى الإعلامي، بل واجهتنا تحديات تقنية كثيرة، منها أن بث الجزيرة الفضائي كان يتم عبر قناة كيو باند بقمر عرب سات، وأغلب أجهزة التقاط البث كانت تعمل بقناة سي باند. كان عدد الذين يشاهدون الجزيرة . كنا نتصارع مع إدارة القمر 20% في الوطن العربي لا يتجاوز الاصطناعي «عرب سات» للانتقال إلى البث على قناة سي باند؛ وبعد مرور نحو سنة من بداية بثنا حصلنا على قناة سي باند. كان ذلك كأننا انطلقنا من جديد. ووصلت الجزيرة إلى كل البلدان العربية ودخلت أغلب البيوت، وبدأنا نتلقى اتصالات كثيرة، وتصلنا سير ذاتية طلبا للعمل. توسع بث القناة، وشدت المشاهد العربي، وأصبحت الجزيرة حاضرة في يوميات المواطنين من المحيط إلى الخليج. بدأت مع هذا التوسع مضايقات الجهات الرسمية وحملات التضييق والاستهداف. أذكر أنني كنت في أحد الأيام مجتمعاً مع الزميل صلاح نجم، وبلغنا أن مكتب القناة في القاهرة أغلق، وسحبت السلطات المصرية رخصة العمل من مديره حسين عبد الغني، دون أن نعرف سبب الإغلاق. ذهبنا أنا وصلاح إلى مصر، وقابلنا صفوت الشريف وزير الإعلام حينها. واستفسرنا عن الخطأ الذي ارتكبته الجزيرة حتى يغلق مكتبنا، فقال لنا: «القناة تهاجم مصر وتعمل ضدها، وهي الدولة الكبيرة والرائدة في الإعلام»، وأخذ يحصي القنوات المصرية ويشيد بتميزها. فقلنا له لكن ما الخطأ بالتحديد؟، فقال إن سبب الإغلاق كان ما ورد في حلقة من شهادة بطرس غالي في برنامج «شاهد على العصر»، حين قال إن قرار زيارة الرئيس المصري السابق أنور السادات إلى إسرائيل اتخذ في جلسة «حشيش وويسكي»، علما أن

لتغطية الحرب، سواء في العراق أو أفغانستان أو غيرها. وأذكر هنا أن الزميل عبد الحق صداح كان من أشجع صحفيينا وأكثرهم إقداماً. كنت أقول له: لقد اجتمعت فيك مهارة الصحفي وجرأة المقاتل. لم يكن يخاف من أي خطر، أذكر أننا عندما خيرناه بين الذهاب إلى كابل (العاصمة الآمنة نسبياً) أو قندهار (المدينة النائية البعيدة) اختار قندهار، رغم خطورة الوضع فيها. ومن القصص التي أثرت في نفسي تأثيراً كبيراً، قصة استشهاد الزميل طارق أيوب رحمه الله. فعندما بدأت حرب الخليج الثانية في ، كان طارق مراسلا اقتصادياً في مكتبنا بعمان، وكان 2003 العام أحيانا يساعد الزميل ياسر أبو هلالة في تغطية بعض الأحداث السياسية. ثم اندلعت الحرب. كان لدينا بعض المراسلين المنتشرين في مناطق مختلفة من العراق، لكن العدد لم يكن كافيا لمواكبة التطورات ميدانيا. مع وصول الاشتباكات إلى الرمادي القريبة من الحدود الأردنية، اقترح طارق أن يذهب إلى هناك، ولما وصل منعته السلطات العراقية من العمل لأنه لا يحمل تصريحا. ذهب إلى بغداد، لكنه لم يستطع استخراج التصريح وبدأ الاستعداد للعودة إلى الأردن. اتصلت ببعض المسؤولين العراقيين لحل المشكلة، وقبل أن يصل طارق إلى عمان حصلت له على الموافقة للعمل في العراق. ما إن وصل إلى منزله بعمان حتى قالت له زوجته: لقد وافقوا لك على العمل. فعاد أدراجه إلى بغداد دون تبديل ملابسه. كان المطار حينها يقصف، وأعد تقريراً ميدانياً بمجرد وصوله. ذهب بعد ذلك إلى مكتبنا في بغداد للالتحاق بالفريق الذي كان يعمل على تغطية متواصلة من العاصمة العراقية. ورغم أننا أعطينا إحداثيات المكتب لقوات التحالف والقوات الأمريكية لكنهم قصفوا المكتب، واستشهد طارق يرحمه الله.

التلفزيونات العربية الرسمية كانت تبث نشراتها الإخبارية على رأس الساعة، لنستقطب المشاهدين ونمنحهم متسعا من الوقت لمشاهدة النشرة الرسمية في بلادهم. خلال تلك الفترة كنا أسرة صغيرة، نشاطر بعضنا البعض مشاكلنا الاجتماعية وأفراحنا ومناسباتنا الخاصة. كان الشغف والاندفاع مسيطرا على جميع العاملين في مقر القناة الصغير. كانوا يعملون ساعات متواصلة دون تعويض أو مقابل، هدفهم فقط إخراج محتوى إخباري متميز وغير مسبوق في القنوات الإعلامية العربية. ومن الطرائف أن الزملاء كانوا يسألونني: متى تنام يا أبو جاسم؟؛ كنت دائماً حاضراً في غرفة الأخبار، في الصباح والمساء، أتابع الجزيرة في السيارة وأشاهدها عندما أعود إلى البيت. كان من بين التحديات الطريفة التي واجهتنا داخلياً تدريب بعض الصحفيين والمنتجين على صياغة الأخبار والتغطيات من دون استخدام عبارات التفخيم والألقاب التي اعتادوا ربطها بأسماء الملوك والرؤساء في بلدانهم. أغلب من تعاقدنا معهم من الدول العربية كانوا موظفين في وسائل الإعلام الرسمية، واعتادت ألسنتهم عبارة «السيد الرئيس»، و»صاحب الفخامة والجلالة»، ليجدوا أنفسهم بين عشية وضحها في قناة تورد أسماء هؤلاء القادة مجردة. في بدايات الجزيرة، لم تكن لدى معظم صحفييها ومراسليها خبرة كافية لتغطية الحروب أو العمل الميداني في مناطق النزاعات والاشتباكات، ولم يتدربوا على ذلك. كانوا يتسابقون بكل شجاعة

توقف المشروع بسبب هذا الخلاف. بعد وصولنا لندن تأكد خبر إغلاق قناة البي بي سي العربية وتسريح الموظفين. ركزنا في اختياراتنا على طاقم بي بي سي من المذيعين والصحفيين وتقنيي الغرافيكس والفيديو. بلغ عدد الذين وقع الاختيار عليهم شخصا، من بينهم الزملاء جميل عازر وجمال ريان وسامي 25 نحو حداد ومحمد كريشان وصلاح نجم وأحمد الشيخ وإبراهيم هلال، وغيرهم. واصلنا الرحلة، وتوجهنا إلى المغرب وتونس ومصر والأردن واخترنا عدداً من الصحفيين والمذيعين والفنيين. في بداية الأمر، كنت مرتاحا ولم أكن أشعر بالتوتر؛ لأنني عضو في مجلس يضم أعضاء آخرين نتقاسم معاً المسؤوليات والأفكار. لكن بعد عودتنا، قرر مجلس الإدارة أن أصبح العضو المنتدب والمدير .1996 العام للقناة بالوكالة. اتخذ هذا القرار في مايو كان موعد الانطلاق يقترب، وبما أني أصبحت مديراً للقناة، أصبحت المسؤول الأول عن أي إخفاق في إنجاز مهمة إطلاقها في الوقت المحدد؛ لهذا وضعت خطة، بالتشاور مع مجلس الإدارة، لتحديد على أن يكون الانطلاق 1996 أكتوبر 1 موعد «البث الداخلي» في الفعلي في فاتح نوفمبر، لمدة ست ساعات يوميا. ، الساعة السابعة والنصف مساء بتوقيت 1996 نوفمبر 01 في الدوحة، الرابعة والنصف مساء بتوقيت غرينتش، انطلق بث الجزيرة. كنا نعرض النشرات في منتصف الساعة، لأن معظم

49

48